فصل: فصل: (في ذكر اختلاف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل: [في ذكر اختلاف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية]:

واختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن حكم الأسارى كان وجوبَ قتلهم، ثم نسخ بقوله: {فامّا منًّا بَعْدُ وإمّا فداءً} [محمد: 4] قاله الحسن، وعطاء في آخرين.
والثاني: بالعكس، وأنه كان الحكم في الأسارى، أنه لا يجوز قتلهم صبرًا، وإنما يجوز المن أو الفداء بقوله: {إاما مَنًّا بعدُ وإما فداءً} ثم نُسخ بقوله: {فاقتلوا المشركين} قاله مجاهد، وقتادة.
والثالث: أن الآيتين محكمتان، والأسير إذا حصل في يد الإمام، فهو مخيَّر، إن شاءَ مَنَّ عليه، وإن شاء فاداه، وإن شاء قتله صبرًا، أيَّ ذلك رأى فيه المصلحة للمسلمين فعلَ، هذا قول جابر بن زيد، وعليه عامة الفقهاء، وهو قول الإمام أحمد. اهـ.

.قال القرطبي:

{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ}
فيه ست مسائل:
الأُولى قوله تعالى: {فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم} أي خرج.
وسلختُ الشهرَ إذا صرت في أواخر أيامه، تَسْلَخه سلخًا وسلوخًا بمعنى خرجت منه.
وقال الشاعر:
إذا ما سلختُ الشهرَ أهللتُ قبله ** كفى قاتلًا سلخي الشهور وإهلالي

وانسلخ الشهر وانسلخ النهار من الليل المقبل.
وسلخت المرأة درعها نزعته.
وفي التنزيل: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} [ياسين: 37].
ونخلة مِسلاخ، وهي التي ينتثر بُسْرها أخضر.
والأشهر الحرم فيها للعلماء قولان: قيل هي الأشهر المعروفة، ثلاثةٌ سَرْدٌ وواحد فَرْد.
قال الأصم: أُريد به من لا عَقد له من المشركين؛ فأوجب أن يمسَك عن قتالهم حتى ينسلخ الحُرُم؛ وهو مدة خمسين يومًا على ما ذكره ابن عباس؛ لأن النداء كان بذلك يوم النحر.
وقد تقدم هذا.
وقيل: شهور العهد أربعة؛ قاله مجاهد وابن إسحاق وابن زيد وعمرو بن شعيب.
وقيل لها حُرُم لأن الله حرّم على المؤمنين فيها دماءَ المشركين والتعرض لهم إلا على سبيل الخير.
الثانية قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} عامٌّ في كل مشرك، لكن السُّنّة خصّت منه ما تقدم بيانه في سورة البقرة من امرأة وراهب وصبيّ وغيرهم.
وقال الله تعالى في أهل الكتاب: {حتى يُعْطُواْ الجزية} [التوبة: 29].
إلا أنه يجوز أن يكون لفظ المشركين لا يتناول أهل الكتاب، ويقتضي ذلك منع أخذ الجزية من عبدة الأوثان وغيرهم، على ما يأتي بيانه.
واعلم أن مطلق قوله: {فاقتلوا المشركين} يقتضي جواز قتلهم بأيّ وجه كان؛ إلا أن الأخبار وردت بالنهي عن المثلة.
ومع هذا فيجوز أن يكون الصدّيق رضي الله عنه حين قتل أهل الردّة بالإحراق بالنار، وبالحجارة وبالرمي من رءوس الجبال، والتنكِيس في الآبار، تعلّق بعموم الآية.
وكذلك إحراق عليّ رضي الله عنه قومًا من أهل الردّة يجوز أن يكون ميلًا إلى هذا المذهب، واعتمادا على عموم اللفظ.
والله أعلم.
الثالثة قوله تعالى: {حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} عامٌّ في كل موضع.
وخصَّ أبو حنيفة رضي الله عنه المسجد الحرام؛ كما سبق في سورة البقرة.
ثم اختلفوا؛ قال الحسين بن الفضل: نسخت هذه كلَّ آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصبر على أذى الأعداء.
وقال الضحاك والسدّيّ وعطاء: هي منسوخة بقوله: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً}.
وأنه لا يُقتل أسير صَبْرًا، إما أن يمنّ عليه وإما أن يُفادى.
وقال مجاهد وقتادة: بل هي ناسخة لقوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} وأنه لا يجوز في الأسارى من المشركين إلا القتل.
وقال ابن زيد: الآيتان محكمتان.
وهو الصحيح، لأن المَنّ والقتل والفداء لم يزل من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم من أوّل حرب حاربهم، وهو يوم بدر كما سبق.
وقوله: {وَخُذُوهُمْ} يدل عليه.
والأخذ هو الأسر.
والأسر إنما يكون للقتل أو الفداء أو المنّ على ما يراه الإمام.
ومعنى {واحصروهم} يريد عن التصرف إلى بلادكم والدخول إليكم؛ إلا أن تأذنوا لهم فيدخلوا إليكم بأمان.
الرابعة قوله تعالى: {واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} المرصد: الموضع الذي يُرقب فيه العدوّ؛ يقال: رصدت فلانًا أرْصُده، أي رَقَبْته.
أي اقعدوا لهم في مواضع الغِرّة حيث يُرصَدون.
قال عامر بن الطُّفَيل:
ولقد علمت وما إخالك ناسيًا ** أن المنيّة للفتى بالمَرْصَد

وقال عِديّ:
أعاذل إن الجهل من لذة الفتى ** وإن المنايا للنفوس بمرصد

وفي هذا دليل على جواز اغتيالهم قبل الدعوة.
ونصب كلّ على الظرف، وهو اختيار الزجاج؛ ويقال: ذهبت طريقًا وذهبت كلَّ طريق.
أو بإسقاط الخافض؛ التقدير: في كل مَرْصد وعلى كلّ مرصد؛ فيُجعل المرصد اسما للطريق.
وخطّأ أبو عليّ الزجاج في جعله الطريق ظرفًا وقال: الطريق مكان مخصوص كالبيت والمسجد؛ فلا يجوز حذف حرف الجر منه إلا فيما ورد فيه الحذف سماعًا؛ كما حكى سيبويه: دخلت الشام ودخلت البيت؛ وكما قيل:
كما عَسَل الطريقَ الثعلبُ

الخامسة قوله تعالى: {فَإِن تَابُواْ} أي من الشرك.
{وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} هذه الآية فيها تأمّل؛ وذلك أن الله تعالى علّق القتل على الشرك، ثم قال: {فَإنْ تَابُوا}.
والأصل أن القتل متى كان للشرك يزول بزواله؛ وذلك يقتضي زوال القتل بمجرّد التوبة، من غير اعتبار إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة؛ ولذلك سقط القتل بمجرد التوبة قبل وقت الصلاة والزكاة.
وهذا بيّن في هذا المعنى؛ غير أن الله تعالى ذكر التوبة وذكر معها شرطين آخرين، فلا سبيل إلى إلغائهما.
نظيره قوله صلى الله عليه وسلم: «أُمِرت أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عَصَموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: والله لأُقاتلنّ من فرّق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال.
وقال ابن عباس: رحم الله أبا بكر ما كان أفقهه.
وقال ابن العربيّ: فانتظم القرآن والسنة واطردا.
ولا خلاف بين المسلمين أن من ترك الصلاة وسائر الفرائض مستحِلًا كفر، ومن ترك السُّنَن متهاونًا فسَق، ومن ترك النوافل لم يَحْرَج؛ إلا أن يجحد فضلها فيكفر، لأنه يصير رادًّا على الرسول عليه السلام ما جاء به وأخبر عنه.
واختلفوا فيمن ترك الصلاة من غير جَحْد لها ولا استحلال؛ فروى يونس بن عبد الأعلى قال: سمعت ابن وهب يقول قال مالك: من آمن بالله وصدّق المرسلين وأبى أن يصلّي قُتل؛ وبه قال أبو ثَور وجميع أصحاب الشافعيّ.
وهو قول حماد بن زيد ومكحول ووكِيع.
وقال أبو حنيفة: يسجن ويضرب ولا يقتل؛ وهو قول ابن شهاب وبه يقول داود بن عليّ.
ومن حجتهم قوله صلى الله عليه وسلم: «أُمِرت أن أُقاتلَ الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوا ذلك عَصَموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقّها» وقالوا: حقّها الثلاث التي قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا يحلّ دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كُفْرٌ بعد إيمان أو زِنًى بعد إحصان أو قتل نفس بغير نفس» وذهبت جماعة من الصحابة والتابعين إلى أن من ترك صلاة واحدة متعمِّدًا حتى يخرج وقتُها لغير عذر، وأبي من أدائها وقضائها وقال لا أُصلي فإنه كافر، ودَمُه ومالُه حلالان، ولا يرثه ورثته من المسلمين، ويستتاب، فإن تاب وإلا قُتل، وحُكْمُ مالِه كحكم مال المرتدّ؛ وهو قول إسحاق.
قال إسحاق: وكذلك كان رأي أهل العلم من لَدُن النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى زماننا هذا.
وقال ابن خُوَيْزِمَنْدَاد: واختلف أصحابنا متى يُقتل تارك الصلاة؛ فقال بعضهم في آخر الوقت المختار، وقال بعضهم آخر وقتِ الضرورة، وهو الصحيح من ذلك.
وذلك أن يبقى من وقت العصر أربع ركعات إلى مغيب الشمس، ومن الليل أربع ركعات لوقت العشاء، ومن الصبح ركعتان قبل طلوع الشمس.
وقال إسحاق: وذهاب الوقت أن يؤخر الظُّهر إلى غروب الشمس، والمغرب إلى طلوع الفجر.
السادسة هذه الآية دالّة على أن من قال: قد تبت أنه لا يجتزأ بقوله حتى ينضاف إلى ذلك أفعاله المحقِّقة للتوبة، لأن الله عز وجل شرط هنا مع التوبة إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ليحقّق بهما التوبة.
وقال في آية الربا: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رءوس أَمْوَالِكُمْ} [البقرة: 279].
وقال: {إِلاَّ الذين تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ} وقد تقدّم معنى هذا في سورة البقرة. اهـ.

.قال الخازن:

قوله سبحانه وتعالى: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم} يعني فإذا انقضت الأشهر الحرم ومضت وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم.
وقال مجاهد ومحمد بن إسحاق: هي شهور العهد سميت حرمًا لحرمة نقض العهد فيها فمن كان له عهد فعهده أربعة أشهر ومن لا عهد له فأجله إلى انقضاء المحرم وذلك خمسون يومًا وقيل إنما قال لها حرم لأن الله سبحانه وتعالى حرم فيها على المؤمنين دماء المشركين والتعرض لهم.
فإن قلت: على هذا القول هذه المدة وهي الخمسون يومًا بعض الأشهر الحرم والله سبحانه وتعالى قال فإذا انسلخ الأشهر الحرم.
قلت: لما كان هذا القدر من الأشهر متصلًا بما مضى أطلق عليه اسم الجمع والمعنى فإذا مضت المدة المضروبة التي يكون معها انسلاخ الأشهر الحرم {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} يعني في الحل والحرم وهذا أمر إطلاق يعني اقتلوهم في أي وقت وأي مكان وجدتموهم {وخذوهم} يعني واسروهم {واحصروهم} أي واحبسوهم.
قال ابن عباس: يريد أن تحصنوا فاحصروهم وامنعوهم من الخروج.
وقيل: امنعوهم من دخول مكة والتصرف في بلاد الإسلام {واقعدوا لهم كل مرصد} يعني على كل طريق والمرصد الوضع الذي يقعد فيه للعدو من رصدت الشيء أرصده إذا ترقبته والمعنى كونوا لهم رصدًا حتى تأخذوهم من أي وجه توجهوا.
وقيل: معناه اقعدوا لهم بطريق مكة حتى لا يدخلوها {فإن تابوا} يعني من الشرك ورجعوا إلى الإيمان {وأقاموا الصلاة} يعني وأتموا أركان الصلاة المفروضة {وآتوا الزكاة} الواجب عليهم طيبة بها أنفسهم {فخلوا سبيلهم} يعني إلى الدخول إلى مكة والتصرف في بلادهم {إن الله غفور} يعني لمن تاب ورجع من الشرك إلى الإيمان ومن المعصية إلى الطاعة {رحيم} يعني بأولياءه وأهل طاعته، وقال الحسن بن الفضل: نسخت هذه الآية كل آية فيها ذكر الإعراض عن المشركين والصبر على أذى الأعداء. اهـ.